دكتورة /عزة عزت
من الشعارات القديمة التي كنا نحفظها عن ظهر قلب ،لا فرق في ذلك بين صبي و فتاة : " العمل حق.. العمل واجب.. العمل حياة " و قد كانت أمهات ذاك الزمـان الجميـــل _ الخمسينيات و الستينيات من القرن العشرين _ يرتبون لنا السلم القيمي علي أساس سليم "الأدب فضلوه عن العلم" ، ثم العلم ، ثم العمل ،ثم الزواج _ الذي كان محظوراً علينا الحديث عنه _ ؛ربما لأن معظمهن كنّ قد حرمن نعمة العلم و العمل أو إحداهما ؛ لمجرد أنهن بنات ،و اكتفى أهلهن بتزويجهن .
المهم أن أمهات ذاك الزمان الجميل كنّ أقدر منّا _ رغم علمهن المحدود _ علي التأثير في أبنائهن و بناتهن .. لماذا ؟ لأسباب كثيرة ،خلاصة القول فيها أن المجتمع كله آنذاك كان يعزف نغمة واحدة و تنويعاتها ؛بحيث يصل الجميع إلى الهدف المرجو من المعزوفة ؛لإحداث التأثير المرغوب .. بينما عدم وضوح الهدف الآن ، و اختلاف نغمات العزف و النوات الموسيقية ،و ميول العازفين و أمزجتهم و توجهاتهم ،و الأهم من ذلك التباين بين القول و الفعل ، و قوة أو سطوة وسائل الاتصال الحديثة ،و المرئية منها على وجه الخصوص ،و الفضائية و "الإنترنتية" على وجه أخص باتت تشارك الأم .. بل و تنازعها تربية أبنائها ، فنجدها كلما رتبت السلم القيمي قلبته لها وسائل الاتصال رأسا على عقب .. سواء كان اتصال شخصي بأصدقاء السوء في الشارع و النادي، أو عبر المحمول ،أو كان اتصال جماهيري ذو سطوة و جاذبية ،تتهاوى أمامها سلطات الأباء و الأمهات ،و عدم جاذبية - إن لم نقل سخف - ما يلقون من نصائح و مواعظ مملة ،و مرفوضة من الأبناء و البنات على السواء .
فالأم التي تقول : الكلام ده عيب ! و التدخين لا ! إلى أخر منظومة الأوامر و النواهي التي كانت سلفا من البديهيات ،ينظر لها هذا الجيل على أنها لا تعيش العصر ( أي متخلفة ) .. رغم أن كم الأوامر و النواهي التي كانت تلقى على مسامعنا قبل عقود قليلة لا تقارن بحال من الأحوال بما يصدر عن الوالدين الآن ،وسط مشاغلهم غير المحدودة ،و إدراكهم اليائس لعدم جدوى ما يقولون ؛لأنه غير مسموع ؛و لأنه لا يناسب العصر كما يرى الأبناء .. حتى لو كان ما يطالبان به هو "حق العمل" و التمسك به و خوض غماره أياً كان ،و اعتباره حياة كاملة تستحق منهم و منهن البحث و الجهد و الدأب ،كما كنا نفعل سلفاً كجيل صلب لا يقارن بهشاشة و استسلام هذا الجيل .. و يبدو أننا دائماً مطالبون بالمقارنة _ أو مضطرون لها _ فالشيء بالشيء يذكر ،و بالتضاد تتضح الأمور .
فعلاً كنا جيل صلب يملك أن يضع أولويات لحياته ،و يملك الحلم ،و يطلق لخياله العنان كي يخطط للمستقبل ،و هذا ما يحسدنا عليه الجيل الحالي ،الذي بات لا يملك الحلم، فتواضعت طموحاته أحياناً و صغرت أو تضاءلت ،لتنحصر في مجرد الحصول على عمل .. أي عمل !! المهم ألا يواجه شبح البطالة .. هذا بالنسبة للشباب .. دون بعض الفتيات الاتي استسلمن للظروف و تخلين عن حلم الطموح العملي .
و قد جابهت هذا الموقف مع تخريج دفعات من الطلاب في عمر التفتح ،ظللت على مدى أعوام أعيد لهم ترتيب سلم القيم ،و أؤكد لهم و لهن بالطبع أن العلم أولاً ،و أن الثقافة أيضاً أولاً ،و أن التنزه عن الدنايا أول الأولويات ،ثم تأتي بعد ذلك باقي متع الحياة ،و كم من مرة قلت و أكدت لهم أن كل إعلامي _أو طامح في العمل الإعلامي _ لابد و أن تكن له قضية يتبناها و يدافع عنها ،و يحاول تنوير مجتمعه حولها ،متسلحا بالثقافة العامة ،و بالاهتمام و الجدية .. و كم قلت ،و قلت .. حتى بت أستشعر أني قد نجحت – و لو بقدر ضئيل – في بث روح جديدة في نفوسهم ،و أنا ألحظ حماسهم المتوهج ،و أكتشف فيهم قدرات على إعمال الفكر تسبق أعمارهم الصغيرة .. و لم أكن أتصور أن فرحتهم بالتخرُّج ستشوبها هذه المرارة و الخوف ؛من مجابهة شبح البطالة الرابض متربصاً بهم _ و بهن أيضاً _ و أن هذا الكائن الخرافي يستطيع أن يئد فرحة النجاح بهذه القسوة .
و قد راعني أن أرى أثار هذا الوأد المبكر للآمال و الفرحة بين الشباب أكثر من الفتيات ،فالبنات كن فرحات بالانتهاء من هم الدراسة الثقيل ،و قلة منهن من أظهرن طموح لاستكمال دراستهن العليا ،كمن سيلعب في الوقت الضائع ،ليحولنه إلى وقت شبه ضائع إلى أن يظهر المخلص ؛متمثلاً في عريس "لقطة" ليستكملن نجاحهن في مجال أخر ،تراه أكثرهن أهم كثيراً من العمل .. بل لعل إحداهن قالتها صريحة : " العمل حق للمرأة .. لكنه ليس واجب عليها " ،و هالني هذا التصريح الخطير .. رغم أنها قالته كمخرج أو حل لمواجهة البطالة التي تنتظر الجميع ،و قد وجدت الفتيات مخرجاً منه بمواصلة الدراسة .. ليس كطموح .. و لكن كمهرب ،متعللات بأن العمل ليس واجب بالنسبة لهن !! رغم كفاح المرأة لنيل اعتراف المجتمع به كحق طوال ما يقرب من قرن من الزمان ،جاهدت أمهاتنا للتمسك به ،و نجحن في بث هذه الروح فينا كجيل ،لتأتي بناتنا و يتنازلن عنه طواعية و تسليماً .. أو لعله اضطرار و تبرير ،كمن لم يصل للعنب فقال بأنه الحصرم !!
أعادني هذا الموقف إلى ذكريات مثل هذا اليوم منذ ثلاثين عاماً ،و تحديداً في أخر أيام العام الدراسي 1968 –1969 ،و نحن نخطو خارجين من ردهات جامعة القاهرة ،و تحديداً مدرج 78 ،أشهر مدرجات كلية الآداب ،الذي كنا نتلقى فيه محاضرات قسم الصحافة .. يومها كانت الأحلام تهد الجبال ،و الطموح يصل عنان السماء ،و كلنا -بنات و بنين لا فرق_ يحتضن حلمه خارجاً به إلى الدنيا الواسعة سعياً وراء تحقيقه .
و أذكر حينما أبعثر الأيام في مخيلتي أني كنت أضع أولويات لأحلامي ،و أن أول هذه الأحلام كان أن أعمل بالصحافة ،و في مؤسسة الأهرام بالذات – حيث كنت أتدرب على مدي ثلاثة أعوام – و أذكر أن هذا الحلم كانت تحيط به بعض العقبات التي قد تحول دون تحقيقه ؛لذلك و ضعت في استراتيجيتي الطويلة آنذاك حلم بديل ،أن أتقدم للدراسات العليا ،و أن أحصل على الدكتوراه ،و أعمل في الجامعة ،و كان حلما كبيراً أيضا ،بحجـم جامعة القاهرة _و ليس مجرد جامعة إقليمية _ كما كان حلم العمل بالصحافة في حجم أكبر الصحف ،و كانت القدوة و المثل في حجم محمد حسنين هيكل ،و أمينة السعيد ،و أنيس منصور ،و أحمد بهاء الدين ،و نجوم لا تطاولهم قامتي ،و أخيراً كان الزواج أخر احتمالاتي .. إذا فشلت في تحقيق أحلامي العلمية و العملية ،و إلى جانب هذه الأحلام كان هاجس الكتابة دائماً يراودني .. لا بل و يسكنني ،و كنت قد بدأت محاولاتي الأولى شعراً _ كما كان دأب جيلي _ ثم نثراُ و قصاً ،و لم أرضى عن كل هذه المحاولات ؛لتواضعها أمام حجم المثل الأعلى و القدوة التي أحتذي بها، و الطموحات التي اترسم خطوات المستقبل على ضوئها .
تذكرت أحلامي هذه الأيام بالذات و أنا أحاول أن أقدم لطلابي – و طالباتي بالذات – تجربتي الطويلة التي تلقيت فيها كثير من الإحباطات ،و حققت فيها بعض الأحلام .. و لكن ليس بالقدر الذي كنت أرجوه ،و لا بالترتيب الذي كنت أتمناه ،كما أنها لم تحدث وفق أولوياتي ،و لا في الأماكن التي كنت أحلم بها .. فلم يتحقق حلم الصحافة في الأهرام ،و لا في مصر كلها .. لكنه تحقق بأكبر مما كنت أتمنى خارج مصر .. حتى صرت سكرتير تحرير جريدة يومية ،ثم مدير تحرير مجلة أسبوعية ،و تحقق حلم الدراسات الكلية .. و لكن لم يتحقق في الجامعة التي كنت أتمناها ،و تحقق حلم أن أكون كاتبة .. و لكن ليس في المجال الذي كنت أرسمه لنفسي آنذاك !!!و الغريب حقاً أن أخر احتمالاتي _ و لا أقول أحلامي كفتيات هذه الأيام _ و هو الزواج قد تحقق أولاً .. و وجدتني أرد على طالبتي التي تقلب الحكمة التي تقول أن : " العمل حق و واجب و حياة " ،لتقصرها على أنها مجرد حق ،يحق لها التنازل عنه ،أو عدم التمسك به متى أرادت ،غير مدركة لكون العمل هو الحياة الكاملة لكل كائن حي ، بدأً بالنبات الذي يمثل بالضوء ؛لينقي لنا الجو كي نتنفس و ننعم بالحياة ،و انتهاءً بالموج الذي نحسبه يلهو على الشاطئ يرغي و يزبد ،هو في الواقع يقوم بتنظيف البحر و إخراج ما في جوفه من شوائب و أصداف فارغة ،فكل شيء من حولنا يعمل لهدف ،و بنات أخر الزمان يتنازلن عن حق لم يبذلن جهداً حقيقياً لنيله ،و يرفضن القيام بواجب يحتمه دين يرى في العمل عبادة، و يهدرن جهد رائدات تحملن الكثير في سبيل الوصول بنا إلى حق العلم و العمل ،و يقلبن ترتيب السلم القيمي أكثر مما أصابه من انقلاب !!!!