السبت، 31 مايو 2008

مقالات


الحاكم و المحكوم في مفردات الشارع المصري!!

بقلم / دكتورة عزة عزت

كانت العلاقة بين الحاكم و المحكوم في مصر علاقة شد وجذب دائم عبر التاريخ المصري قديمه و حديثه، مع اختلاف نسبي بين حقبة و أخرى، و قد عبَّرت المأثورات الشعبية المصرية عن علاقة المصري بالسلطة في شتى الفنون الشعبية: المواويل و الأمثال و حتى في النكات السياسية.. و لكن مهما تباينت هذه العلاقة فإن المزاج الشعبي قد رسم لها شكلا وحدد لها ملامحاً مميزة، و وضع لها حدوداً، و وصَّفها بدقة بالغة، بأسلوبه الساخر البديع، و بحسه و مزاجه الحريف، الذي لا يجاريه أي مزاج أخر عربي أو غربي.. فماذا قال المثل الشعبي عن السلطة ممثلة في الحاكم: فرعون كان أو سلطان أو خديوي أو ملك أو رئيس ؟ و كيف حدد هذه العلاقة بين الراعي و الرعية ؟!

بداية استشعر المصري الجالس على حافة النهر منذ فجر التاريخ حاجته لكبير قوي صارم، له حول و طول يستطيع أن ينظم الحياة على ضفتي النهر، و يضبط الري و نظامه حال فيضان النيل أو تحاريقه؛ و لذلك آلـَّه حكامه و شيد في حبهم أو عبادته لهم حضارة مازالت أثارها باقية، و لذا لم يعد غريباً علينا أن نبحث دائماً عن البطل فإن لم نجده نصنعه، و نصبغ عليه ملامح أسطورية.. حتى لو لم يكن يتمتع بها أصلا، و كما يقول المثل الشعبي : "اللي ما لوش كبير يشتري له كبير"؛ لإدراكه أنه في حاجة لهذا الكبير؛ ليعضده و يسانده في الشدة؛ و لذلك يقول المثل المصري: "اللي تيجي له المصايب يدق الأبواب العالية"، فهو يدرك بفطنته إن "إللي له ضهر ما ينضربش على بطنه"، و أنه إذا كان "الريس يحبك أمسح إيدك في القلع"، ذلك أن المصري قد أدرك أن رضا الحاكم و محبته لأحد من المقربين له تسمح له بالكثير من الأمور غير المقبولة، و لذا يصدق المثل القائل: "حاميها حراميها" .

هيبة الحاكم و خشيته

و المصري بطبعه طيِّع لحكامه و خاضع لهم، فقد تعوَّد عبر تاريخه الطويل أن يُقدِّس السلطة و يُجلها و يحترمها _ و لو ظاهرياً أو في مواجهتها _ و إن كان يسخر منها في نكاته و في أمثاله و أيضاَ في تشبيهاته و كناياته الشعبية، فهو من يقول : "إتوصوا بنا يا اللي حكمتونا إحنا العبيد و انتو اشتريتونا"، و هو من قال : "أرقص للقرد في دولته"، و هو اختصار لمثل قديم متنه طويل جداً يقول: "اضرب عاد بثمود و ارقص مع القرد إذا حكمت؛ مادام في دولة القرود"، و هو من قال في استفهام استنكاري بديع: "حد يقول للغولة عينك حمرة!!" أو "حد يقدر يقول البغل في الإبريق"، و هو من يسلم تسليما تاماً و هو يقول: "اللي يتجوز أمي أقول له يا عمي" .

فالمصري هو من أدرك أن للحاكم و للكبير بوجه عام هيبته و خشيته؛ و لذلك فهو يرى أن "الملك من هيبته بينشتم في غيبته"، و هو من أدرك بدهائه الذي اكتسبه من سنوات العنت و الظلم التي عانى فيها من حكام جائرين تسيدوا عليه من كل حدب و صوب كيف يداهن حكامه و ينافقهم؛ ليأمن شرهم، ذلك أن "الإيد اللي ما تقدرش تقطعها بوسها"، فمن المعروف أن مصر لم تحكم منذ عام 332 قبل الميلاد من قِبل أبنائها، فمنذ حكم الإسكندر الأكبر و حتى ثورة يوليو تعاقب عليها الإغريق و البطالمة، ثم الرومان و الفرس و العرب و المماليك و الترك العثمانلية، و هذا الشعب نفسه هو من حكمته النساء، و العبيد المماليك، و الأغوات من الخصيان، و صبر على كل حكامه صبراً جميلا، و عبَّر أيضاَ بأمثاله الشعبية عن قهر هؤلاء الحكام له و قلة حيلته في مواجهتهم، التي لم يملك حيال تحكمهم فيه إلا الاستكانة و التملق فقال: "الحيا سُنـَّة و مسح الجوخ فرض"، و يصل الأمر بالمصري أن يقول: "أتوصوا علينا يا للي حكمتم جديد إحنا عبيدكم و أنتم علينا سيد"، و "معاهم معاهم عليهم عليهم"؛ تجنباً للإيذاء .

هذا و قد عانى المصريون من صلف حكامهم و تعاليهم عليهم، الأمر الذي جعلهم هم أيضاَ يسعون للابتعاد عنهم، و لذا قالوا: "السلطان من لا يعرف السلطان أو من بعد عن السلطان"، و قد حدد المصريون و رسموا شكل و مساحة الاقتراب من الحاكم في قوله: "رايح فين يا صعلوك ما بين الملوك؟!"، فالمفروض عدم الاقتراب منهم.. لأننا لن نستطيع مجاراتهم .

الاستعلاء و إطلاق اللسان

و رغم ما يبدو من استسلام ظاهري من جانب المصريين لحكامهم الأجانب عبر عصور نجدهم بنفس أبيه يرفضون تحكم من يرونه أدنى، فيقولون تعبيراً عن ذلك: "الضرب بالسيف و لا حكم العويل فيَّ "، و هو مثل تكرر كثيراً في المواويل الشعبية أيضاً، كما يقولون استنكاراً لتحكم العبيد _ شرى المال _ من المماليك فيهم و هم من يفترض أن يكونوا أسياداً في وطنهم، يقولون أمثالا كثيرة تكرِّس رفضهم فيما بينهم لما يحدث، فهم لا يملكون سوى ألسنتهم ليطلقوها على الحكام في محيطهم الخاص فيقولوا: "الله يلعنك يا زمان ياللي خليت للندل كلام و جبت اللي ورا قدام وخليت السيد خدام"، كما يقولون: "خدام بيخدم خدام من ميلتك يا زمان" أو "جارية بتخدم جارية دي خيبة عالية" حيث كان هذا الأمر وارد حدوثه كثيراً في عصر المماليك الذي كانت تصعد فيه الإماء و الجواري و العبيد إلى مصاف الحكام بين يوم و ليلة .

هذا و يستهين المصري غالباً بمن يتحكمون فيه، و يرى أنهم ليسو أهلا للحكم فيقول: "خلقته لركبته و عشرة في خدمته"، سخرية و استهانة ممن حكموه "و لا حكم قراقوش"؛ ذلك أن المصري عانى الأمرين من حكامه، و أكثر ما كان يكرهه فيهم تسليطهم للجباه و إطلاقهم عليه، و قد عبرت الأمثال عن ذلك قائلة: "إيش تاخد من تفليسي يا برديسي" ، و "المفلس غلب السلطان" .

أما عن توصيف الأمثال للحكم و الحكام، و يدهم الطولى في إيذاء الشعب الذي يخضع لهم و يطيعهم بالقوة فيتمثل في الأقوال: "جبناك يا حكومة تحمينا حميتي النار و كوتينا"، و "حاكمك غريمك إن ما طِعته يضيمك"، و " سيف السلطة طويل "، و "حكم القوي ع الضعيف طاعة"، و "شومة على شومة يكفيك شر الحكومة"، و هي أمثال يتبناها معظم المصريين حتى الآن، فنجدهم طيِّعين إلى حد كبير للسلطة، يخشون سيفها الطويل و شومها الموجه إليهم إذا ما رفعوا رأسهم معترضين.. إلا ما ندر منهم ممن نسميهم الآن قوى المعارضة ذات الصوت العالي التي لا تمثل حتى الآن معارضة إيجابية إلا قلة ضئيلة، تطلق عليها الحكومات المصرية المتعاقبة "القلة المندسة" !!

لكل زمان دولة و رجال

و بفطنة المصري و خبرته بالحكم و الحكام يدرك تماماً أنه "على الباغي تدور الدوائر"، و أن "الزمان دوار"، و أن "دوام الحال من المحال"، خاصة في مجال السلطة و التسلط؛ و لذلك يصبر المصري على حكامه طويلا؛ مؤمناً بأن "دولة الظلم ساعة و دولة الحق حتى قيام الساعة"، و أن "الكرسي دوار"؛ و لذلك لا يفرحون كثيراً بالتغيير، و يأخذون منه الحذر قائلين بحكمة السبعة آلاف السنة عمر حضارتهم و خبرتهم المتراكمة بزوال الدول و تعاقب الحكام: "ما تفرحوش في اللي راح أما تشوفوا اللي جي" أو "ما تفرحوش في اللي إنعزل لما تشوفوا إللي نزل" .

هذا و لأن المصري الحكيم يعرف أن "كل شيء و له قانون"، أو دستور ينظمه فهو مقتنع بأن "المركِب إللي فيها ريسيين تغرق"، و هذا يعكس أن مزاجه يُكرِّس الرأي الواحد للحاكم دون نِقاش حتى لا تغرق السفينة.. و لكن بشرط أن يكون هذا القائد قادر و على قدر المسؤولية؛ و لذا يقول المثل: "إللي يعمل ريس يجيب الريح من قرونه و أن "نص الحكم هيبة"؛ و لذا فالحكم عنده يتطلب القدرة و الهيبة و حسن التصرف و إيجاد الحلول لتسيِّر دفة الحكم، حتى لو حكمت أن يأتي بالريح التي تسييِّر المركب من رأسه!! فهذه مسئوليته طالما تصدى للقيادة .

السعي للسلطة و إفساد الحاكم

و يدرك المصري بفطرته السليمة أن للسلطة مميزات تجعل الكل يسعى إليها مهما كان ما يحيط بها من مصاعب و شبهات، و تقول أمثال المصريين في هذا الصدد: "زي مرزوق يحب السلطة و لو على خازوق" ، و "المال الميري سايب"؛ و لذلك تلمِح الأمثال الشعبية إلى المحيطين بالسلطان أو الأمير بوصفهم ليسو فوق الشبهات، فهم كثرة متملقة تخدع الحاكم و تفسده، و لا يهمها سوى إرضائه، و ليس على بالها من مصالح شعب شيء، و تلخص هذه المعاني الأمثال القائلة: "طربوش الأمير شراشيبه كتير" أي التابعين له و من يمشون خلفه، غير عابئين بالمصلحة العامة؛ و لذلك فأن "اللي معاه القمر إيش على باله من النجوم".. لكن هؤلاء التابعين يعملون لصالح السلطة ضد الشعب، و هم يحسنون فقط التجسس عليه لصالح ولي الأمر؛ و لذا يقول المثل: "الحكومة تعرف دبة النملة" .

و هذه القلة المحيطة بالحاكم غالباً ما تكون هي المفسدة له، و لذلك يصوغ المزاج الشعبي هذا المعنى في مثل تأتي الإجابة فيه على لسان الحاكم نفسه حينما يُسأل عن جبروته فيقول: "قال: يا فرعون أيه فرعنك؟! قال: ما لقيتش حد يردني" أو " ما لقيتش إللي يرجعني" عن الظلم بالطبع!! و هو الأمر الذي يشارك فيه المصريين بالسلبية و الطاعة المطلقة، و التأليه للحكام فيفسدونهم!

هذا و قد اكتفى المصري عبر التاريخ و حتى الآن بصب جام غضبه على الإدارة و معاداتها؛ بداية: لأنها تحول بينه و بين الوصول للحاكم و توصيل المظالم له، و ثانياً: لإيمانه شبه المطلق بأن هذه الجوقة المحيطة بالحاكم هي التي تفسده و تصم آذنيه على السماع لصوت شعبه، و هي التي تعزله عن الشعب لتستفرد به، و ملخص الأمر أنها هي التي تفرعنه .

أمس و اليوم

ذلك عن مفردات الشعب المصري و نظرته التاريخية للحاكم و علاقته بالمحكومين، أما عن مفردات الشعب المصري الآن و كيف تصوغ فلسفته الخاصة في رؤية العلاقة بين الحكام و المحكومين؟ فيكفي أن نقول أن القريحة المصرية مازالت تجود بالكثير من الأقوال و المنحوتات اللفظية التي توصِّف الأحوال و الظواهر الآنية بإحكام معجز، يعكس تضررها مما آل إليه الحال، فتركز على مظاهر الفساد و الإفساد، و انتشار الرشوة و نهب المال العام، و الواسطة و المحسوبية، و استغلال السلطة و النفوذ في القهر و البطش، كما توصِّف انتشار المادية و لغة المال، و انحسار القيم التي اعتبارها من الرومانتيكيات الكلاسيكية، و تسخر من تبدُّل الأحوال و انقلاب السلم القيمي، و تسيُّد الرأسمالية و رجال المال و الأعمال، و انتشار الركاكة و الطلسأة في كل ما نمارس من عمل، و كله بحساب الربح و الخسارة، و ليس لحساب الإتقان و القيمة و الأصالة و المصلحة العامة .

هذا كما تسخر مفردات الشارع المصري من الخضوع و التسليم و الطاعة و السلبية، و من النفاق و المراءه.. لكنها تحبذ بطرف خفي بعض آفات المرحلة من فهلوة تصل إلى حد النصب و الاحتيال أو التحايل على الظروف و المعايش، و اللجوء إلى الخداع و التضليل؛ لتحقيق المصلحة الخاصة الضيقة و الكسب غير المشروع؛ حيث اختلطت الأوراق و تاهت الحدود بين الحق و الباطل و الحلال و الحرام الذي كان يتبينه الضمير المصري بفطرية و بديهية، فأصبح يميل إلى اللجوء للكذب و المبالغة و التدليس و التهويل و النفاق إلى حد الموالسة، و المتابع لما أطلقته القريحة المصرية الشابة دائماً يجده كثير جداً، يضيق المجال هنا عن حصره.. أو حتى استعراض بعض نماذجه.. لكن سيجد فيه الكثير مما يتصل بعلاقة الحاكم بالمحكومين و توصيف الدولة و مواقفها من مجريات الأمور .

و يكفي هنا ذكر القليل من النماذج التي توصِّف ما آل إليه حالنا من تحول كالقول : "بقت ميغة، كرسي في الكلوب، يا نعيش عيشة فل يا نموت إحنا الكل، كوسة، إدِّيها مَيَّة تدِّيك طراوة، و فتح مخك، و أبجني تجدني، و ظرفني تعرفني، و ابرز تنجز، و قب باللحلوح، و خد الفلوس و اجري، و ياكل مال النبي ويغمس بالصحابة و الأولياء الصالحين، و ماعندوش يا أمة إرحميني، و مسنود من فوق، و ما ينول و يطول إلا إللي في البلد مسؤول، و ركب الموجة و ماشي مع الرايجة، و كارت إرهاب حكومي، و دخل شمال، و إشارته خضرة، و دولة دلدولة لا مع دولة و لا مع دولة، و الجري نص الجدعنة، و عيش ندل تموت مستور، و ذاكر تنجح غش تجيب مجموع، و اشتغل على قد فلوسهم،و بيكسب من الهوى، و راح في الكازوزة، و هات م الأخر، و اشتري دماغك، و طنش تعش تنتعش، و أحلام سيادتك أوامر، و مشي حالك، و الدنيا مش عايزه إللي يحجر لها، يعنى أنت هتصلح الكون؟!! دي الدكتره بقت زي الكركرة و السمساره" .

فأصبح الجميع ممن "خرموا التعريفة، و عصروا الدنيا و مصوا زعزوعتها، و بتوع الليل و أخره و نزيح النهار و نتاخروا، و عالم مخلـَّصة تلعب بالدماغ و تلينها، و تلحس المخ و تشتغله، و تظبوطه ع الموجة، و تخيِّش في النفوخ، فهم بشر مرض و انتشر، و فنجرية البق بتوع الدعاية الانتخابية، و كلام الجرايد، إللي بيكدبوا زي ما بيتنفسوا، و كله كلام وفعل مفيش، و نكدب الكدبة و نصدقها، و لو إن الحكاية مش طالبة، و بمبة بقى، و لم الدور أو لم الليلة، و لم تعابينك بقى ما نعطلكش، و هي دي مصر يا عبلة!!!

هناك تعليق واحد:

Unknown يقول...

الاستاذة الفاضلة عزة
استمتعت بقراءة كتاباتك التى تتناول شتى نواحى حياتنا اعجبتنى صياغاتك واسلوبك الشيق البسيط الذى يخاطب افئدة عامة الشعب معبرا عنهم وكأنهم هم المتحدثون هذه الحرفية الشديدة هبه من الله ادامها الله عليك
العربى السمان السويس