الجمعة، 20 يونيو 2008

هل الزواج أصبح مشكلة ؟!

د. عزة عزت

أصبحت "العنوسة" من المشاكل الاجتماعية الحديثة ،التي باتت تؤرِّق .. بل و تؤلم النفس ،و مرض مجتمعي يظهر بوضوح كطفح جلدي على وجه المجتمع العربي و المصري.. ورغم كثرة ما كُتب عن هذه الظاهرة المرضية ،سواء كتفنيد لأسبابها ،أو كتنبيه لمخاطرها المستقبلية على نفوس البشر – و النساء منهم بشكل خاص – و على النظام الاجتماعي كلـه.. رغم كثرة ما قيل أدَّعي أنني أستطيع أن أدلي بدلوي في هذا الموضوع الشائك، الذي اقتربت منه كثيراً على مستوى الاطلاع المقروء ،و على المستوى الإنساني المعاش.
فالعنوسة بدأت "بحدوتة " خلق صعوبة ما للفوز بالعروس الحلم ، أو تصعيب الأمر على الخاطب ؛لينال يد غير ممدودة إليه في الأصل .. فالأمر كان مرتبطاً بست الحسن و الجمال بنت السلطان ،أو بنت شهبندر التجَّار –أياً كان المستوى الاجتماعي – و كان على الخاطب الحالم بالانتساب إلى هذه الذروة – أو القمة التي لا يستطيع أن يطاولها – كان عليه أن يحضر "الحبَقْ و النَبَقْ" ،و أن يأتي "بشوشة أمه و أبوه في الطبق " ؛كدلالة على مشقة و صعوبة الحصول على المراد .. إلى أن تحوَّلت "الحدوته" إلى واقع أليم ، إذ كانت النتيجة بقاء الجميلة ذات الحسب قعيدة الدار ،و الخلاصة أنها أصبحت"عانس" !!
و في مجتمعات عربية كثيرة يرجعون "العنوسة" أو " تأخر سن الزواج " –إذا أردنا التأدُّب في التعبير عن الظاهرة – يرجعونها إلى انخراط الفتيات في التعليم ،و زيادة وعيهن؛ الذي أدى إلى تأخر زواجهن لما بعد انتهاء سنوات الدراسة الجامعية ،و إلى رفضهن لأيٍ من كان كخاطب ،نظراً لما أصبحن يتمتعن به من وعي ..فيمتد العمر بهن إلى سنوات ما بعد التخرج بحثاً عن العريس المناسب ،الذي قد يأتي متأخراً .. و قد لا يأتي مطلقاً .. لكني أستنكر أن يكون التعليم و الوعي – وهما خير مطلق – أن يكونا مجلبة للشر .. فالعلم و الوعي يؤخران الزواج إلى مرحلة النضج و حسن الاختيار .. و لكن .. و يمكننا وضع العديد من الأسباب الأخرى بعد كلمة "و لكن.." من مثل :
· التحرر الاقتصادي الذي تتمتع به فتاة اليوم ،و الذي لم يجعل الزواج – كما كان سلفا- هو حلمها الأوحد.
· و تطور المفاهيم المتعلقة بقوامة الرجل ،و طاعة المرأة له ،و ما استتبعه من اختلاف النظرة للحياة الزوجية ،.
· و التكاليف الباهظة لإقامة و استمرار حياة مستقرة .. و أهمها في مصر بالذات أزمة الإسكان .
· و التحوُّل في أهم سمات الشخصية المصرية .. المتميزة بالرضا و القناعة و الصبر، إلى اللجاجة و الاستسهال ،و الرغبة في الثراء السريع و الحياة الراغدة .. دون بذل جهد و عناء ،أو صبر على الأيام ..حتى تأتي بهذه النوعية من الحياة ،و السبب معروف –و إن كان ليس موضوعنا الآن – و هو ما يُكرِّسه الإلحاح الإعلامي و الإعلاني من نزعات استهلاكية ،و ما يعرضه من مظاهر حياة البذخ و الترف عن طرق سهلة في أحسن الأحوال ،و غير مشروعة في أسوئها .
هذا مع ضرورة إدراك أن العنوسة لم تعد مسئولية الأهل ،و الفتيات و حسب .. لكنها أصبحت صناعة الرجل أيضاً ؛ فغالبية الخُطَّاب أصبحت لهم مطالب تعجيزية .. تجعلهم أحياناً يدخلون مؤسسة الزواج مشاركين بمجهودهم فقط .. دون دفع شيء مقابل ما يلقون داخل هذه المؤسسة من تدليل و تمتع بالسلطة ،و الخدمة التي تقدَّم لكل منهم بوصفه رب بيت مهاب – أو يفترض أنه مهاب – و في المقابل تغالي الفتيات اللاتي أصبحن يثمِّن جهودهن و مشاركتهن المالية في مؤسسة الزواج ،و يُغالين في مطالبهن ؛ لأن فرصة فرض الشروط ،و المغالاة في المطالب في فترة الخطوبة هي الفرصة الأخيرة بالنسبة لهن ، فهي الفترة التي بتن – بفضل الوعي – يدركن تماماً أنها مرحلة الأخذ و التلقي المادي و العاطفي .. التي تبدأ بعدها مرحلة العطاء بلا حدود ،و دون مقابل ..أو حتى تقدير من زوج لا يعطي من ماله !! و قد لا يعطي من عواطفه أيضاً!! و لو حتى كمتكلم و أنيس في مؤسسة الصحبة و الرفقة .. بعد أن يُصاب " بالخرس الزوجي " كمرض معروف لدى كل الجنس اللطيف .. و إن لم يعترف بعض الرجال بإصابتهم به ،و بتفشِّيه بينهم .
المهم أن المجتمع العربي و المصري يرى "العنوسة" في المرأة دون الرجل .. رغم أن العنوسة أصلاً يوصف بها النساء و الرجال – لغويا - كما أنها لم تعد – اجتماعياً- عنوسة المرأة .. لكنها عزوف النساء و الرجال معاً عن الزواج ؛و لكل فريق منهم أسبابه ،سواء كانت ناتجة عن عدم مقدرتهم على تكاليفه .. كتأخُّر إجباري لسن الزواج ، أو "عنوسة اختيارية" كما هو الحال بالنسبة للرجال الذين يؤخرون الزواج بمزاجهم ؛ و لأسباب تتعلق بعدم الرغبة في تحمُّل المسئولية ،و الاكتفاء بعلاقات وقتية –كالزواج العرفي و العلاقات غير المشروعة - بغرض إشباع الفراغ العاطفي ،أو إشباع الغرائز دون التزام !! في حين أن الفتيات يؤجِّلن إلى حين ؛ لأسباب وجيهة هي : تحصيل العلم ،و إثبات الذات في العمل.. و حينما يبدأن في البحث عن زوج ،أو لنقل انتظار الطارق الطالب للزواج يصدمن ؛ لأنهن لم تعدن نموذجاً للمرأة المرغوبة من الشباب الخاطب ،الذي يحلم بفتيات الإعلان و عارضات الأزياء ،و راقصات الفيديو كليب ،أو مذيعات التليفزيون - في أحسن الأحوال -و كلها نماذج للجمال الغربي ،الذي تروِّج له وسائل الإعلام المرئية .
و النتيجة أننا بعد أن كنَّا نحارب الزواج المبكر و مضاره في الريف.. أصبحنا نعاني من تأخر سن الزواج في المدن ،و مسالبه الكثيرة الواقعة و المتوقَّعة ،و أخطرها وجود فئة منذورة للإحباط و الكبت و الوحدة ،و قهر المشاعر و الدوافع ،أو الغرائز الطبيعية و الفطرية .. خاصةُ اللاتي ينتظرن من يتعطف عليهن بطلب القرب ،و كأنهن بضاعة بائرة يجب أن نُدلّل عليها لتروج .. و نتخلص من ركودها في مخازننا .. حتى لو اقتضى الأمر تقديم الكثير من التنازلات .. أو بلغة البيع و الشراء عمل تخفيضات أو "أوكازيون" ؛ لترويجها .. فنرحب حتى بمن لا يملك .. بعد أن كنّا نعتبر من يدفع أكثر هو العريس "اللقطة" !! بينما المنطق و الشرع ،و الرغبة في استمرارية الحياة بسعادة تتطلب منا النظرة للعلاقة الزوجية بعيداً عن المعايير التجارية .. التي تقول "إللي يدفع يشيِّل" !! فالزواج رباط مودة و رحمة ،له أهميته الاجتماعية و النفسية و الصحية و …و … و … للرجل و المرأة معاً .

ليست هناك تعليقات: