الجمعة، 20 يونيو 2008

دولة الروتين .. و تساهيل ربنا !!
د. عزة عزت
عائمة هي كل وعودنا .. سواء باللقاء أو بالإنجاز ؛ و الحجة الدائمة هي إرادة الله ؛ فمن يضرب موعداً يقول :"بعد الظهر" ، و في الريف يقولون : "صفاري شمس" .. دون تحديد دقيق لساعة معينة لّلقاء - و لا أقول تحديد الجزء من الساعة كشكل من أشكال الدقة - فالمواعيد المصرية دائماً عائمة ، و تقديم المشيئة أمر واجب .. ليس من منطلق الإيمان .. و لكن هروبا من الالتزام بموعد محدد ؛ إذ نترك لأنفسنا دائما فرصة التراجع و التلكؤ ، و الحال نفسه حينما نعد بإنجاز شئ ما فنقول : " ربِّنا يسهِّل " و ما لا نعلمه هو أن الله دائما يُسهِّل لنا الأمور ،و نحن الذين نُصعِّبها على أنفسنا و على الآخرين .. كيف ؟!!!
على كل المستويات في مصر الأمور غير محددة .. و بين كل الفئات من أبسط رجل في الشارع المصري إلى كبار المثقفين و الشخصيات العامة ،و الأنكى أو الأدهى و الأمـر أن يكون الحال نفسه مع العلماء ،الذين يُفترض أن الأمور بالنسبة لهم أكثر تحديداً و علمية ،و مع ذلك نجدهم كغيرهم من المصريين يعوِّمون الأمور و يميعونها ؛ كي يجدوا فيما بعد الثغرة التي ينفذون منها للتراجع عن أي قرار ،أو اللجوء للاستثناء .. كيف ؟!! الحقيقة أن الأمر شرحه يطول .. و أنا قررت أن أحيل الأمر برمته إلى فيلسوف الإذاعة في وقت لا يكون فيه مشغول ، ليقعِّر و ينظِّر ،و يتأمل في الأمر ملياً ثم يقول لي :اسمعي يا بنيَّتي .......... ،و إلى أن يأتيني الرد أحاول من جهتي إعمال الذهن ؛ للوقوف على السبب الكامن وراء هذه العادة أو الآفة المصرية ،الكامنة في التلافيف الداخلية للعقل العربي و المصري بالتالي .
و أخيراً استطعت أن أصل إلى اجتهاد متواضع ، يشير إلى وجود فرعون صغير يكمن داخل كل منا ، تهفو نفسه إلى السيطرة ،و يتطلع إلى الهيمنة و التحكُّم في العباد .. يكبر أو يصغر داخلنا وفقاً لمقتضى الموقف ،و لحجم سلطة كل منا .. فعادل إمام حينما أشار إلى نصف كفه راداً على مدرسته ،التي تتمنى للطلاب أن "يمسك كل واحد فيهم حته كبيرة في البلد" قائلاً : "أنا حمسك حته قد كده" لم يخطئ .. فليس المهم حجم أو مساحة السلطة الممنوحة.. و لكن المهم مدى قدرة الفرعون الكامن داخل كل منا للتحكُّم في مصائر العباد ،و تعويق مسيرتهم ، فبقدر هذا التمكن من الهيمنة و السيطرة بقدر الشعور بتحقيق الذات !!.. و حتى لا نظلم كل الناس نقول: أن هناك داخل قلة من البشر فرعون عادل ،يسعد بتسهيل الأمور على الناس .. لكن الفرعون العادل ليس موضوعنا ؛ لأنه ليس القاعدة السائدة هذه الأيام .. بل هو الاستثناء من هذه القاعدة .
و كلما طالعت بريد القراء في أي صحيفة أو مجلة أتأمل الشكاوى و المشاكل التي يطرحونها ،و التي تعكس معاناتهم مع دولة الروتين .. حتى أني فكرت كثيراً في إعداد كتاب أجمع فيه كل هذه المآسي المضحكة المبكية ؛ لتكون مادة غاية في الطرافة .. لكني استشعرت أني سأبرز دور الفراعنة الصغار بذواتهم المتضخمة ،و أجعل منهم أبطالاً لكل حكايات المعاناة المصرية .. و هذا الدور – دور البطولة - لا يستحقوه !!
دار بخلدي كل ذلك و أنا أسعى لتحقيق مصلحة لي.. و الأمور كلها ميسَّرة بأمر الله ؛ بمعنى أن الله سهَّل .. و تدرج الطلب وعليه سلسلة من الموافقات على عدة مستويات متدرجة استغرقت عامين ،إلى أن وصلت إلى أخر جهة للتصديق عليه .. لكن فرعون صغير قفز فجأة ؛ ليحطم أملي في تحقيق هذه المصلحة .. رغم أنها حق لي .. لكن كلمة واحدة من هذا الفرعون الصغير يمكن أن " توقَّف المراكب السايرة " ،و دون مبرر واضح .. سوى أن الموافقات السابقة لم تتم في عصره ،و لم تمهر بتوقيعه الكريم ،و كما هي عادة الفراعنة القدماء يأتي كل منهم ليمسح عن كل المسلات و الجدران ما خطه الفرعون السابق ،و يخفي برديات سلفه و خراطيشه ،و أتوسل و أترجي بكل الأسباب الإنسانية ،و بما بذلت من جهد في سبيل الحصول على الموافقات السابقة حتى و صلت إلى أخر موافقة .. و لكن دون جدوى ؛ و المبررات كثيرة: و أولها : اللائحة تنص ،و القانون يقول .. و أخرها المسؤولية و المصلحة العامة .. و أتساءل : و راحتي و مصلحتي أنا ؟؟ أليس لها اعتبار ؟!! فأتذكر المبدأ الشعبي السائد الآن و هو "ما داهية ألا تكون مبسوط أو مرتاح" !!
و لم استطع استخلاص حقي من فم السبع .. و لم استطع أن أطالب به بوصفه حق .. بل رحت أستجديه ، و أوسط طوب الأرض للتدخل و استجدائه معي ؛ لأن الفرعون الصغير الذي قفز فجأة يملك سلبه ببساطة ، و المبررات كثيرة و كلها تفسيرات عرجاء للائحة و القانون .. و لم استطع الحصول على وعد - مجرد وعد - فالتهرب من الوعود القاطعة ،و الإنجاز الملزم الرد عليه دائما: "إن شاء الله" و "ربنا يسهِّل" !!! و ربنا بالطبع يسهِّل لنا كل أمر عسير ،و نحن الذين نُصعِّب !! و لم أنجح في الاجتهاد في الفهم ، لذا سأترك الأمر للفيلسوف .. متى يكون غير مشغول !!

ليست هناك تعليقات: