د. عزة عزت
"ربي لا تدخلني في التجربة" دعاء إنجيلي جميل ،و عميق المغزى .. قد لا ندرك مرماه البعيد ،فالدعاء صلاة نتقرَّب بها من الله ،طالبين أن يكفينا شر الابتلاء بامتحان صعب، لا نستطيع اجتيازه .
و قد يتصور البعض أن الابتلاء بالمرض ،أو بموت عزيز ،أو بانقطاع رزق هي أصعب الامتحانات ،التي يمكن أن ندخلها ،و التي يصعُب على غالبيتنا اجتيازها بنجاح فنُثاب أو نؤجر عليه .. لكن الحقيقة - في تصوري - أن الامتحان الصعب هو أن يُفتتن المرء في دينه، و أن يُختبر في مدي تمسُّكه بما يعتنق من قيم ،و مبادئ طال به أمد الحفاظ عليها و الدفاع عنها.. خاصة في هذا الزمان الذي أصبح فيه "القابض على دينه كالقابض على الجمر" ،و في زمن اختلطت فيه الأوراق ،و تداخلت فيه التفسيرات و المسميات أو التعريفات .. رغم أن "الحلال بيِّن و الحرام بيِّن" و لا مجال لأي لبث .. و لكن ماذا يفعل إنسان مؤمن حيال تسمية "البرطلة" أو الرشوة "بالإكرامية" أو "العمولة" ،أو حتى "الزيس"؟؟ و الأنكى من ذلك أن يطلب منه أن يحتسبها عند الله صدقة !!
تذكرت هذا الدعاء ،و تمتمت به بيني و بين نفسي حيال موقف ،و جدت فيه نفسي أمام محك حقيقي ؛لاختبار مدى صلابتي ،في مقابل تحقيق مطمح أو أمل اقترب تحقيقه ،و لم يعد أمام إمساكي به و القبض عليه إلا خطوة واحدة ،أي أصبحت (قاب قوسين أو أدني) لنيله .. و لكن.. و لابد من أن أضع مئات الخطوط تحت كلمة و" لكن " و ما تلعبه في حياتي من أدوار شريرة ، توقف لي كل المصالح ،و تنحيها عن الطريق فلا أقبض سوى على السراب .
و تذكرت أيضاً مقولة أستاذي ،و أستاذ جيلي كله من خريجي الصحافة .. دكتور إبراهيم إمام ، الذي كان يُدرِّس لنا في كلية الآداب العديد من المواد ،و كان في عز المد الاشتراكي لا يؤمن بالاشتراكية ،و كان يعلن لنا رأيه هذا ،أو يبثنا عدم إيمانه بها في ثنايا ما يلقي من محاضرات ،و قد دلل لنا على عدم صدق من ينادون بتوزيع الثروات ،و أنهم يتشدَّقون بمبادئ لا يستطيعون تطبيقها على أنفسهم .. إذا وصل الأمر إلى حدود ملكيتهم الحقيقية ،و أن ما يرددونه مجرد شعارات جوفاء ..تتبخر عن حدود ذواتهم ،و قد ضرب لنا مثلاً عملياً ،بأن كل إنسان يُمكنه أن يقول : " لو أني أملك عشرة أردية لتنازلت عن نصفها لمن لا يملك ،و لو أني أملك ثمان لتنازلت عن نصفها و لو ست لتنازلت عن نصفها " .. و هكذا حتى يصل إلى حدود ملكيته الفعلية .. فإذا كان يملك ثلاثة ،و طلب منه تطبيق الاشتراكية على نفسه .. فلن يتنازل عن واحد فقط من الثلاثة !!
وقد صدمت في نفسي حينما وجدتني أفكر – مجرد تفكير – في ممارسة أمر ظللت طوال عمري أتجنبه ؛بوصفه رجز من عمل الشيطان .. ألا و هو التعامل في الرشوة ،كأسلوب إنجاز للمصالح .. حتى أني كنت آنف من منح أي من رؤسائي في العمل هدية .. مهما كانت تفاهتها ؛لسبب بسيط هو أني كنت أقيسها بنيتي أنا – التي لا يعلمها إلا الله – و هي أني لا أقدِّمها محبة في شخصه ،أو كما هو الحال مع ما أقدمه لأصدقائي من هدايا على سبيل المجاملة الواجبة ،كما أني لا أقدمها كصدقة .. كما هو الحال بالنسبة لما أمنحه لمن هم في احتياج حقيقي.. لكني أقدمها من قبيل التقرُّب من ذوي النفوذ و السلطة .. و قد نأيت بنفسي عن الانزلاق في هذا الطريق ،حتى لا أرى نفسي منافقة أو متزلفة لأيٍ من كان .. فإذا كنت أرفض منح هدية .. فكيف أفكر في منح رشوة ؟!
و وجدتني أخرج من مجرد التفكير إلي حيز إشراك غيري معي –فما خاب من استشار- و هالني كم التفسيرات و التبريرات التي حصلت عليها ؛كي أسكِت ضميري و أخدِّره ؛ كي أمرر و أبرر لنفسي ما سأقدم عليه ؛لتحقيق مصلحة كبيرة لي ،أصبحت في يد إنسان صغير النفس و المكانة .. لكن في يده التأثير على صانع القرار ، الذي يملك تحقيق مأربي ،و هالني كم التحبيذ لإنجاز ما أريد .. حتى لو كانت الرشوة هي السبيل الوحيد ،و إلا فلأضيِّع الفرصة التي قد لا تأتي مرة أخرى ،فمن قائل اعتبريها "حلاوان" و من قائل: " أن الكبار و الصغار يمارسونها الآن " .. فمن أنا حتى أربأ بنفسي عن ممارسته !!؟ و هل لو أحجمت ،و ضاعت الفرصة و هي من حقي تماماً و أخذها غيري .. هل سأصلح الكون ؟؟!! و من يقول : "خليِّك زي ما أنتِ " و من يقول "لا تدفعي نقود .. بل امنحي هدية ،و "النبي قبل الهدية "الهدية " .. و النبي برئ من هذا التفسير ،و أخيراً كان التبرير المعجز : "اعتبريها صدقة !! "
و أمام عجبي من كل هذه التبريرات !!! استرجعت قاموس مفردات الشارع المصري المستحدثة .. خلال العقود الثلاث الأخيرة ،و التي تقول الكثير في توصيف و تبرير أو تحليل الرشوة ،من قبيل : " رُش و اربح " ،و "ابرز تنجز" كتحريف للقول السائد في الستينيات و القائل: "ونجز تنجز" أي أعطي الموظف سيجارة "wings " - و كانت من أشهر الأنواع آنذاك – في حين أن الرشوة الآن لابد و أن تكون " رشَّة جريئة " .. ناهيك عن التسميات الأخرى مثل "حلاوان" و "تفتيح مخ" ،و "سيز" و "إكرامية" و "قهوة" … إلي أخر هذه التسميات المعجزة التي تؤكد مدي قدرة المصري على التحامق .. فهو إذا أراد يقلب الأبيض أسود دون عناء !!
و حينما أدركت أن الأمر مجرد تحامق لا يجب أن أنجرف وراءه .. و أنه لو كان المحك هو الاستشهاد بالأقوال ،و الاسترشاد بالآراء .. فالقول الفصل هو : "لعن الله الراشي و المرتشي و الرائش " و صدق رسول الله إذ قال :" و اعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيْ لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك .. و لو اجتمعت على أن يضرُّوك بشيء .. لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك .. جفت الأقلام و رفعت الصحف "
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق